البخل.. أشكال/ قصة قصيرة .. ؟؟
لم أكن بخيلاً في أي يوم من أيام حياتي، لكن طريقة زوجتي هادية في الإنفاق جعلتني أراجع، مجبراً، حساباتي كافة وأدقق في كل درهم يخرج من رصيدي ليترعرع في جيوب غيري. إن هادية هي من ذلك النوع من النساء الذي يوصف بأنه ذو كف مثقوبة.. كأن الفلوس لا تستقر في يدها سوى هنيهات ثم تتسرب منها إلى حيث لا أدري.
لنقل إنني لم أكن أدري، في بداية عهدي بالزواج، كيف تنفق زوجتي ما تطلبه مني من نقود. والحقيقة، هي أنني لم أكن أميل إلى أن تطلب، بل كنت أضع لها رزماً مالية في الجارور الصغير تحت مرآة زينتها، وكانت تتصرف فيها كما تشاء، بين مصروف البيت وطلبات الشغالة واحتياجاتها الخاصة الأخرى، من لوازم وثياب وعطور وكل ما تشتهيه المرأة وتسعد به.
كان ذلك في البداية، ثم اكتشفت أن هادية لا تشتري لنفسها الكثير، وأنها تكاد تكون مقترة في المطبخ، وأن يدها مغلولة عموماً، وهي مستعدة لأن تتجادل مع البائع نصف ساعة، لكي تحصل على تخفيض بسيط في السعر، أو أنها تقود سيارتها لمسافة بعيدة في سبيل الذهاب إلى خياطة، تطلب أجراً يقل عن ذاك الذي تطلبه زميلتها التي يقع مشغلها في شارعنا.
أين تذهب زوجتي بالنقود؟ هل تدخرها في حساب خاص بها؟
هل تؤمن بأن القرش الأبيض ينفع في اليوم الأسود؟ هل تستثمرها في مشروع صغير على طريقة سيدات الأعمال في هذه الأيام؟ لا، إن هادية تصب كل ما تأخذه مني في حضن والدتها، السيدة الأرملة التي ترك لها زوجها ما يقيها الحاجة أو طلب المساعدة من أي إنسان، حتى ولو كانت ابنتها.
للوهلة الأولى، استرحت عندما تيقنت من أن زوجتي لا تتصرف في مالي بسفاهة، وحمدت لها لهفتها على إعانة والدتها، لكن الأمور بلغت حداً يجعلها تقتطع من لقمتنا ومن مصروف البيت، لكي تغدق كرمها على حماتي.
كيف أسكت على الأمر؟ كان لابد من أن أفتح معها الموضوع، وفوجئت بها تغضب وتبكي وتقول إنني بخيل.. وإن والدتها هي صاحبة أكبر فضل عليها وعليَّ. ولم أفهم هذه العبارة الأخيرة ولم أتوقف عندها. لكن صفة بخيل طعنتني في الصميم.
- البخل أشكال:
ثار يوسف وامتقع لونه وصعد البخار إلى رأسه، لمجرد أنني قلت إنه بخيل على والدتي، المرأة التي لا تهنأ لي لقمة ولا رشفة طيبة إذا لم أتقاسمها معها.
ما قيمة حلية أشتريها أو ثوب أتزين به، إذا لم يكن لأمي حصة من فرحي وزهوي؟ وكيف يمكن ليوسف أن يفهم عمق العلاقة التي تربطني بحماته، أمي التي هي أختي الكبيرة وصديقتي وكاتمة أسراري؟
حين توفي أبي، كنت في الخامسة عشرة، وكانت والدتي في الثالثة والثلاثين، تسير معي بقامتها الضئيلة، ونظراتها الخجولة، فيظن الناس أننا شقيقتان، بل كنت أبدو أكبر منها، أحياناً، حين أتبرج في الأفراح وأفرد قامتي المديدة وأرتدي الكعب العالي. بينما تأتي هي بثوبها الأسود البسيط، ووجهها النقي من الأصباغ وابتسامتها التي تشبه ابتسامه طفلة غريرة. وكنت، أيام المدرسة، أشتري لها الدفاتر وأعلمها المطالعة والكتابة مثل تلميذة في الصف الابتدائي. وكنت أراجع لها واجباتها، في المساء، وأضع لها العلامات وأحيطها بعبارات التشجيع، بل وأحضنها بذراعيَّ وكأنها ابنتي.. وكأنني الشخص المسؤول عنها. ولأنني كنت قوية الشخصية، فقد كنت أتكفل بشراء حاجات البيت ولوازم والدتي التي كانت أمانة تركها أبي في عنقي. ألا يكفي أنها لم تتزوج، بعد وفاته، وظلت معي تغطيني بظلها الحنون وتسلي مراهقتي وأول شبابي؟ وكنت قد عزمت على أن تعيش والدتي معي، العمر كله، وأن يكون ذلك شرطي لكل من يتقدم للزواج بي. لكنها أبت أن تنتقل من بيتها إلى بيتي، وعاندتني للمرة الأولى في العمر، وعصت أمري!
وكان يوسف كريماً معي، فجاء لي بسيارة جديدة وعلمني قيادتها لكي أتردد على والدتي كل يوم. لكنه لم يكن كريماً حين عاتبني على ما أنفقه عليها، وكأن سعادتها ورخاءها ليسا جزءاً من سعادتي ورخائي. هل يريد زوجي أن أدخل على أمي فارغة اليدين، بلا فواكه ولا حلويات ولا هدايا؟ هل يريد أن أشتري لها حاجاتها من نقودها؟ أن أحاسبها مثل الغرباء على ما أنفقت من نقودها وما بقي معي؟
كيف يفهم زوجي أن الكرم لا يتجزأ، وأن البخل أنواع، وأن، أمنحه والدتي يسعدني كما لو أنّه منحه لي
ياقمر واصلي ابداعاتك
